يُعتبر الكسكس المغربي، أو كما يُعرف محليًا باسم سْكْسُو، أكثر من مجرد وجبة غذائية تقليدية، فهو رمز وطني متجذر في الثقافة المغربية، يجمع بين الأصالة والهوية والذاكرة الجماعية.
عبر التاريخ، ظل هذا الطبق حاضرًا في حياة المغاربة اليومية، يُطهى في القرى والحواضر على حد سواء، ويُقدَّم في المناسبات الدينية والاجتماعية. فلا يخلو بيت مغربي من طقوس إعداد الكسكس، خصوصًا يوم الجمعة، حين تجتمع العائلة حول مائدة عامرة تعبق برائحة البخار المتصاعد من “الكسكاس” وتفاصيل الحكايات العائلية التي تُروى على نكهة السمن والقرفة.
لقد استطاع الكسكس المغربي أن يتجاوز حدود المطبخ ليصبح جزءًا من الهوية الوطنية، فكل مغربي يرى في هذا الطبق ارتباطًا بالذاكرة، بالبيت، وبالأم أو الجدة التي كانت تهيئه بعناية وحنان.
ورغم تغيّر نمط الحياة، وانتشار المطاعم والأكل السريع، ما يزال الكسكس يحتفظ بعرشه في قائمة الأطباق المفضلة، ويُقدَّم كرمز للكرم المغربي والأصالة التي لا تزول.
أصول الكسكس المغربي: من الأمازيغ إلى العالم
تاريخ الكسكس المغربي ضارب في القدم، إذ يُجمع المؤرخون على أنه طبق أمازيغي أصيل نشأ في شمال إفريقيا قبل الإسلام بقرون. وتُظهر النقوش الأثرية التي عُثر عليها في بعض المناطق الأمازيغية القديمة وجود أوانٍ شبيهة بـ“الكسكاس” الحديث، ما يدل على أن تقنية طهي الطعام بالبخار كانت معروفة لدى الأمازيغ منذ زمن بعيد.
ويذكر ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أن “البربر حين سُئلوا عن هويتهم بعد الفتح الإسلامي قالوا: نحن قوم نحلق الرؤوس ونلبس البرنوس ونأكل الكسكوس”، وهي عبارة تلخّص علاقة الكسكس العميقة بهوية الأمازيغ وثقافتهم اليومية.
ومن هنا، يمكن القول إن الكسكس لم يكن مجرد طعام، بل جزء من تعريف الذات الأمازيغية، ووسيلة للتعبير عن الانتماء إلى الأرض والتقاليد.
الأصل اللغوي لكلمة "كسكس"
تُعد كلمة “كسكس” أو “سكسو” أمازيغية الأصل، وتُستخدم بصيغ متعددة بحسب اللهجات والمناطق: أسكسو، ؤوفتي، أرواي، أدنبو، اشينك.
ويُطلق عليه أيضًا في بعض المناطق اسم “ؤتشي” أو “ؤتشو”، وهما كلمتان أمازيغيتان تعنيان “الطعام”، في إشارة إلى مكانته المركزية في النظام الغذائي الأمازيغي.
ومن هذه الكلمة اشتُقت مفردات أخرى مثل “الكسكاس”، الإناء المثقّب الذي يُطهى فيه الكسكس على بخار المرق أو اللحم، وهي طريقة مميزة للطبخ جعلت هذا الطبق يتميز بخفته ومذاقه الفريد.
وفي اللهجة المغربية، تُستخدم عبارات مثل “الفار” أو “فور” للدلالة على عملية تبخير الكسكس، ومن هنا جاء المثل الشعبي المعروف:
“والله ما قفلتي لا فورتي” أي لم تُعدّي الكسكس بعد، وهو تعبير عن أن إعداد الكسكس يتطلب صبرًا ودقة ووقتًا، وليس مجرد طهي عابر.
الكسكس في المراجع التاريخية المغربية والأندلسية
لم يقتصر حضور الكسكس على المطبخ الشعبي فقط، بل كان أيضًا موضوعًا في المؤلفات الأدبية والتاريخية.
ومن أبرز المؤلفات التي تناولت الكسكس المغربي بتفصيل ودقة في القرن الثالث عشر الميلادي / السابع الهجري، كتاب «فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان» لمؤلفه ابن رزين التيجيبي الأندلسي (توفي سنة 692هـ / 1292م)، أحد أعلام فن الطبخ في المغرب والأندلس.
وقد أفرد ابن رزين في الفصل الخامس من مؤلفه الشهير، والمعنون بـ «مما يُسقى سقي الثريد أو يُطبخ طبخ الأحساء»، ووصف وصفا دقيقًا لعملية إعداد الكسكس، مبرزًا المهارة التي يتطلّبها تحضيره بعنوان “عمل الكسكسو”.
يقول في وصفه:
“يُؤخذ السميد الرطب فيُوضع في المعجنة، ويُرشّ عليه ماء مذاب فيه قليل من الملح، ثم يُحرّك بأطراف الأصابع حتى تتماسك حبيباته، ويُفرك برفق بين الكفين حتى يصبح في حجم رؤوس النمل، ثم يُنخل بغربال خفيف ليُزال ما تبقى من الدقيق، ويُترك مغطّى ليرتاح قبل الطهي.”
كما وصف ابن رزين كيفية إعداد المرق قائلاً:
“يُؤخذ من أطايب اللحم البقري الفتي السمين ومن عظامه الكبار، ويُضاف إليه الزيت والفلفل والكزبرة والبصل والخضرة الموسمية مثل اللفت والجزر والفول الأخضر والباذنجان، ويُترك حتى ينضج ثم يُوضع فوقه الكسكس حتى يتشبع بخاره”.
ويُشير أيضًا إلى أنواع متعددة من الكسكس مثل الكسكس بالجوز والكسكس بالبيسار (الفول المطحون)، وهو دليل على أن هذا الطبق كان منذ قرون عنوانًا للتنوع والإبداع في المطبخ المغربي.
هل الكسكس أكلة مغربية خالصة؟
على الرغم من أن طبق الكسكس (أو "الكسكسو") يُعد أكلةً مشتركة بين بلدان المغرب الكبير، فإن ارتباطه الوثيق بالمغرب والمغاربة يظل الأوضح والأقوى. فقد استطاع المغاربة أن يمنحوا هذه الأكلة إشعاعًا عالميًا جعلها علامةً مميزة لهويتهم الثقافية والغذائية، حتى بات اسم "الكسكس المغربي" يتردّد في كل مكان كمرادف للأصالة والضيافة.
فبمجرد أن يُذكر الكسكس، يتبادر إلى ذهن السامع المغرب بكل ما يرمز إليه من تاريخ وتراث. ويُعزى هذا الارتباط العميق إلى براعة المغاربة في تحضير الكسكس بطرق متعددة ومكونات متنوعة، وإبداعهم في تقديمه بمذاقات فريدة تختلف من جهة إلى أخرى. كما ساهم انتشار هذه الوجبة في المائدة المغربية، سواء في يوم الجمعة التقليدي أو في المناسبات الدينية والاجتماعية، في ترسيخ مكانتها كطبقٍ لا يُنافسه إلا الطاجين المغربي من حيث الحضور والشعبية.
لقد تحوّل الكسكس إلى رمزٍ للكرم المغربي وأيقونةٍ من أيقونات المطبخ المغربي، يعكس عمق الهوية الثقافية وتقاليد الضيافة المتوارثة عبر الأجيال.
الاعتراف الدولي بالكسكس المغربي
إن وصف الكسكس بـ"المغربي" لا يتعارض مع كونه طبقًا مغاربيًا مشتركًا، شأنه شأن الكسكس الجزائري أو التونسي أو الموريتاني أو الليبي. إلا أن تميّز النسخة المغربية منه يعود بالأساس إلى الخبرات والمهارات والطقوس الخاصة التي ترافق عملية تحضيره وتقديمه، أكثر من ارتباطه بالاسم أو الأصل الجغرافي.
هذا التفرّد جعل المغرب يتقدّم، إلى جانب الجزائر وتونس وموريتانيا، بملفٍ مشترك لدى منظمة اليونسكو لتسجيل "المهارات والخبرة والممارسات المتعلقة بإنتاج واستهلاك الكسكس" ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي للإنسانية، وهو ما تحقق رسميًا في ديسمبر 2020.
كما واصل المغرب تأكيد مكانة هذه الأكلة ضمن التراث الإسلامي، من خلال تسجيل المهارات والعادات المرتبطة بالكسكس المغربي في قائمة لجنة التراث في العالم الإسلامي التابعة لمنظمة الإيسيسكو (منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة).
أنواع الكسكس المغربي: تنوع يروي قصة المذاق المغربي
تتنوع أنواع الكسكس المغربي باختلاف المناطق والعادات، إذ يعكس كل نوع منها هوية محلية ونمط حياة مميزًا.
وفيما يلي أشهر أنواعه:
1. الكسكس البسيط (أحلحول)
يُعد هذا النوع أقدم وأبسط أنواع الكسكس، إذ يُحضَّر من خليطٍ من الدقيق والنخالة مع قليلٍ من الزيت والبصل والملح. كانت الأسر الفقيرة في البوادي تُعدّه لطعمه القوي ومكوناته الطبيعية البسيطة، وهو يُجسّد مثالًا حيًّا على الاقتصاد المنزلي المغربي الذي يجمع بين البساطة والقيمة الغذائية.
2. كسكس بسبع خضاري
أشهر وألذ أنواع الكسكس المغربي، ويُحضّر من سميد القمح الصلب، ويُطهى مع اللحم والخضار الموسمية مثل الجزر واللفت والقرع والكرنب والفول الأخضر ويُقدَّم غالبًا يوم الجمعة، وتُعتبر السبع خضاري رمزًا للوفرة والبركة في المائدة المغربية.
3. كسكس بالتفاية
من أطباق المناسبات الكبرى. يُطهى من السميد مع لحم الغنم والبصل والزبيب المعسل والحمص، ويُزيَّن بشرائح البصل المحلاة بالعسل والسمن. يمزج بين النكهة المالحة والحلوة في توازن فريد يعكس ذوق المطبخ المغربي الراقي.
4. كسكس بالشعير
يُحضّر من سميد الشعير الكامل، ويُعتبر من أكثر الأنواع فائدة وصح وغالبًا ما يُطهى مع رؤوس الأغنام أو لحم الرأس، ويُقدَّم في الشتاء لما يمنحه من طاقة وقوة للجسم.
5. باداز أو أباداز
نوع أمازيغي تقليدي يُحضَّر من سويق الذرة (سميدة الذرة)، ويُعدّ غذاءً أساسيًا في المناطق الجبلية والريفية. يُقدَّم غالبًا مع الحليب أو اللبن، ويُعتبر من الأكلات التراثية القديمة التي ما زالت حاضرة في بعض القرى.
6. سيكوك أو أزيكوك
يُطهى بنفس طريقة الكسكس العادي لكنه يُقدَّم باردًا مع اللبن الحامض أو المخيض، ما يجعله مثاليًا لفصل الصيف.كان طبقًا رئيسيًا للعمال والفلاحين، خصوصًا في موسم الحصاد، لما يمنحه من انتعاش وتغذية متكاملة.
7. بركوش (أبركوكش)
يُحضَّر من حبوب الكسكس الكبيرة ويُقدَّم ساخنًا مع الحليب والزبدة الذائبة. يُعرف بأنه كسكس الفلاحين، ويُعتبر وجبة فطور أو عشاء مغذية ومشبعة في الأرياف.
8. السفة المغربية
هي النسخة الحلوة من الكسكس، تُطهى من السميد أو الشعرية الرفيعة، وتُقدَّم مزينة بالسكر الناعم والقرفة واللوزوتُقدَّم في الأعراس والمناسبات السعيدة كرمز للتفاؤل والحياة الحلوة.
طرق تحضير الكسكس المغربي: فن البخار ودقة التفاصيل
يعتمد إعداد الكسكس المغربي على تقنية دقيقة تُعرف باسم "الفار"، وهي عملية تبخير متكرر للسميد فوق قدر المرق ويُعتبر الكسكس الجيد هو الذي يُفور ثلاث أو أربع مرات، بحيث تظل حباته منفصلة وخفيفة وتتشبع بنكهات المرق والتوابل.
خلال التحضير، تُستخدم اليدان بخفة لتفكيك الحبوب وتدليكها بالزيت أو السمن، ثم تُعاد إلى الكسكاس في مراحل متعددة من البخار.
هذه العملية، التي تبدو بسيطة، هي في الواقع طقس متوارث يجمع بين الدقة والخبرة، وتُعد رمزًا لصبر المرأة المغربية وإتقانها لأسرار المطبخ الأصيل.
خاتمة:
الكسكس المغربي، طبق يوحّد المغاربة ويُبهِر العالم
يبقى الكسكس المغربي أكثر من أكلة شعبية؛ إنه ذاكرة أمة ومرآة لهويتها. هو الطبق الذي يوحّد المغاربة كل يوم جمعة، ويمدّ جسور التواصل بين الماضي والحاضر.
وقد استطاع بفضل غناه وتنوعه أن يُصبح سفيرًا للمغرب في العالم، يُقدَّم في المطاعم الفاخرة كما في البيوت البسيطة، محافظًا على جوهره الأصيل وروحه الجماعية.