عندما تنطق الجدران باسم فاس
في لحظة وصولك إلى مدينة فاس، تشعر وكأنك دخلت كتابًا مفتوحًا من التاريخ، مرسومًا بألوان الطين والزليج، تفوح منه رائحة الجلد والمسك والعود. إنها ليست مجرد مدينة، بل تجربة تعيشها بكل حواسك. تأسرك أزقتها الضيقة، وتسرقك نداءات الصناع التقليديين، بينما تنقلك المساجد والمدارس العتيقة في رحلة إلى القرون الوسطى. في هذا المقال، سنغوص معًا في عمق فاس، نكشف أسرارها، ونسافر في تفاصيلها، وكأننا نسير في الزمن على مهل.
فاس في سطور
"فاس" هي واحدة من أعرق المدن المغربية، تقع في الشمال الشرقي من المغرب، وتعد ثالث أكبر مدينة من حيث عدد السكان. تأسست سنة 789 ميلادية، وتُعتبر العاصمة الروحية والعلمية للبلاد. تتميز المدينة بتنوع ثقافي هائل، وبأحياءها التاريخية التي صمدت في وجه الزمن، كما أنها تضم واحدة من أقدم الجامعات في العالم: "جامعة القرويين".
ما يجعل فاس استثنائية ليس فقط ماضيها العريق، بل قدرتها على الحفاظ على هويتها وسط موجات التغيير، فهي مدينة حيث يلتقي الحاضر بالماضي في مشهد قلّ نظيره.
تعريف مدينة فاس؟
فاس هي إحدى أعرق المدن المغربية، تقع في شمال البلاد، وتُعد العاصمة الروحية والثقافية للمملكة المغربية. تُعتبر من أقدم المدن الإسلامية في العالم، وتتميز بأسوارها العالية، وأبوابها التاريخية، ومدينة قديمة تم تصنيفها ضمن مواقع التراث العالمي من قِبل منظمة اليونسكو.
عرفت مدينة "فاس" مراحل متعددة من الازدهار والانحدار عبر تاريخها. ففي العهد المريني، شهدت ازدهارًا كبيرًا تمثل في بناء المدارس العتيقة، والأسواق التقليدية، والقصور الفخمة. أما في العهدين السعدي والعلوي، فقد واصلت المدينة أداء دور محوري في الحياة السياسية والثقافية للمغرب.
وخلال فترة الاستعمار الفرنسي، واجهت فاس تحديات كبيرة، لكنها تمكنت من الحفاظ على هويتها المعمارية والدينية والثقافية. وفي عام 1981، تم إدراج المدينة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، تقديرًا لقيمتها التاريخية والثقافية الفريدة.
من أسس مدينة فاس؟
يرجع تأسيس "فاس" إلى "إدريس الثاني"، ابن مؤسس الدولة الإدريسية إدريس الأول. في سنة 808م، قرر إدريس الثاني أن يجعل من فاس عاصمةً لدولته الناشئة، فاختار هذا الموقع الاستراتيجي على ضفاف وادي فاس، وبدأ في تشييد المدينة تدريجيًا. كان الهدف أن تكون فاس مركزًا علميًا ودينيًا، وقد نجح في ذلك بامتياز.
اقتباس:
"أسس إدريس الثاني مدينة فاس لتكون عاصمة للعلم والدين، واليوم لا تزال تؤدي هذا الدور بكل فخر."
متى بُنيت مدينة فاس؟
بدأت فاس في التشكل سنة 789م على يد إدريس الأول، لكن البناء الحقيقي للمدينة وتجسيدها كعاصمة دينية وثقافية تم على يد إدريس الثاني في بداية القرن التاسع الميلادي. مع مرور الوقت، تطورت المدينة تدريجيًا وتوسعت حتى أصبحت من كبريات المدن الإسلامية في شمال إفريقيا.
المدينة العتيقة وقلب فاس النابض
فاس البالي وفاس الجديدة
تنقسم المدينة إلى قسمين رئيسيين:
فاس البالي: المدينة الأم التي تنبض بالتاريخ
"فاس البالي" هي الجزء الأقدم من المدينة، تأسست في القرن الثامن الميلادي على يد إدريس الثاني، وهي تُعد واحدة من أعرق وأكبر المدن العتيقة في العالم التي ما زالت مأهولة بالسكان. الأزقة الضيقة، والبيوت المتلاصقة، والرياضات ذات الطابع الأندلسي، كلها تشكل فسيفساء معمارية نادرة لا تجدها إلا في فاس البالي.
تحتوي فاس البالي على أهم المعالم التاريخية، مثل: جامعة القرويين المدارس العتيقة مثل مدرسة العطارين الزوايا والأسواق التقليدية مثل سوق الصفارين والدباغة.
فاس الجديد: الامتداد السلطاني للمدينة
أما فاس الجديد فقد بُنيت في القرن الثالث عشر على يد المرينيين، لتكون مقرًا للسلطة والإدارة، وتتميز بتخطيط معماري أكثر تنظيمًا واتساعًا مقارنةً بفاس البالي. كانت في الأصل حصنًا ومركزًا للحكم، ومع الوقت تحولت إلى حي متكامل يضم القصور والمرافق الرسمية.
من أبرز معالم في فاس الجديد
القصر الملكي الفاسي، بابه الذهبي الشهير لا يمكن تجاهله.
الحدائق الأندلسية، خاصة حديقة جنان السبيل.
الحي اليهودي (الملاح) الذي يعكس التنوع الثقافي للمدينة.
جامع القرويين: أقدم جامعة في العالم
تأسس جامع القرويين سنة 859م على يد فاطمة الفهرية، ويُعد من أقدم الجامعات في العالم، حيث كان مركزًا للعلم والدين والفكر، وخرّج علماء كبار أثّروا في تاريخ المغرب والعالم الإسلامي.
المدارس العتيقة: معابد العلم والجمال
مدرسة العطارين
تحفة معمارية شيدت في القرن الرابع عشر خلال عهد الدولة المرينية،على يد السلطان أبو سعيد عثمان المريني وكانت مخصصة لتدريس العلوم الدينية لطلبة جامعة القرويين.تتميز مدرسة العطارين بزخارفها الهندسية الدقيقة ونقوشها الخشبية والبلاط المزخرف الذي يعكس براعة الصانع الفاسي.
مدرسة البوعنانية
واحدة من أروع المدارس المرينية، تجمع بين روعة الفن المعماري ووظيفة التعليم الديني، وكانت تُدرّس فيها علوم الفقه والحديث والنحو. شيدت على يد السلطان اوبو عنان المريني ما بين 1350 و1355م.
فاس والفن المعماري المغربي
لا يمكن الحديث عن فاس دون التطرق إلى هندستها المعمارية الرائعة. الأسقف الخشبية المزخرفة، الجص المنقوش، الأبواب النحاسية، والنافورات المزينة "بالزليج البلدي"، كلها تشهد على عبقرية الصناع الفاسيين.
الحمامات والأسواق: حياة نابضة في الأزقة
في فاس، الأسواق لا تنام، من سوق العطارين إلى سوق الصفارين، حيث تباع العطور، التوابل، الأدوات النحاسية، والمنتجات الجلدية. أما الحمامات التقليدية، فهي طقس يومي وروحاني لا تزال حاضرة بقوة.
الصناعة التقليدية في فاس.. حين يتحول التاريخ إلى فنّ
لا تكتمل زيارة فاس دون التوقف عند كنوزها الحرفية والصناعات التقليدية التي تُعتبر من الأهم والأجود في المغرب، بل في العالم الإسلامي بأسره. هنا، لا يُنظر إلى الحِرَف كوسيلة للعيش فقط، بل كفنٍّ راقٍ له أصوله وروحه الخاصة. من الزليج الفاسي، إلى القفطان الفاسي، ومرورًا بـالنطع الفاسي، تحمل هذه الصنائع في طياتها قرونًا من البراعة والدقة والجمال.
الزليج الفاسي: فسيفساء الجمال المغربي
في كل زاوية من زوايا المدينة العتيقة، تجد الزليج الفاسي يزيّن الجدران، النوافير، المساجد، والقصور. الزليج، أو كما يسميه البعض "الزليج البلدي"، ليس مجرد بلاط ملوّن، بل هو نتاج حرفة دقيقة تتطلب الصبر والدقة والذوق الفني.
يصنع الزليج يدويًا، حيث تُقطع البلاطات الصغيرة بدقة متناهية، وتُرصف لتكوّن أشكالًا هندسية متناغمة ترمز للخلود والتوازن. لا عجب أن الزليج الفاسي يثير إعجاب الزوار والمصممين العالميين، لأنه يُجسد جمال العمارة المغربية في أبهى صورها.
اقتباس:
"الزليج الفاسي لا يُركب، بل يُغنى... كل قطعة تُحكى، وكل نمطٍ يُروى، إنه فن لا يفنى."
القفطان الفاسي: لباس النبلاء وأناقة الزمن الجميل
من لا يعرف القفطان الفاسي؟ إنه قطعة فنية تُرتدى، وأحد أعرق أشكال اللباس المغربي التقليدي، لا سيما في المناسبات والأعراس. يتميز القفطان الفاسي بدقته العالية في التطريز، خصوصًا تطريز "الفتلة" أو "السفيفة"، واستخدام الأقمشة الغنية كالحرير والمخمل.
ما يجعل القفطان الفاسي فريدًا هو لمسته التاريخية، فهو ليس مجرد لباس، بل ذاكرة حية لأجيال من النساء اللواتي اعتبرنه فخرًا وهوية. وحتى اليوم، لا تزال العائلات الفاسية تُوصي على القفاطين المطرزة يدويًا من أمهر الحرفيين.
النطع الفاسي: جلد فاخر وصنعة متقنة
من الصناعات الأقل شهرة لكن الأكثر تميزًا، نجد النطع الفاسي، وهو نوع من الجلد المصنوع والمصبوغ يدويًا باستخدام تقنيات تقليدية متوارثة. يُستخدم النطع لصناعة منتجات متعددة، من بينها الأحذية التقليدية (البلغة)، والحقائب، والمقاعد، وحتى ديكورات المنازل.
في مدابغ فاس الشهيرة، يُصبغ الجلد بألوان طبيعية كالنيلي والقرمزي، ويُجفف في الشمس، ثم يُعالج بمواد طبيعية ليحافظ على مرونته ولمعانه. كل قطعة من النطع الفاسي تروي قصة من العرق والصبر والإبداع.
البرج الشمالي: حارس فاس الصامت وسِجل أسلحتها القديمة
يقف البرج الشمالي شامخًا في أعلى نقطة من فاس القديمة، بُني في القرن السادس عشر على يد السعديين، وكان جزءًا من نظام دفاعي لحماية المدينة.
اليوم تحوّل البرج إلى متحف للأسلحة التقليدية، حيث تُعرض فيه مجموعات نادرة من السيوف والبنادق والدروع. ومن فوقه يمكن الاستمتاع بإطلالة بانورامية ساحرة على المدينة.
فاس والروحانية: المدينة التي تُنصت لصمتها
تُعرف فاس بروحانيتها العميقة، فهي موطن الزوايا والأضرحة مثل ضريح مولاي إدريس، حيث يقصده الزوار للتبرك والتأمل.
المهرجانات الثقافية في فاس
من أبرز الفعاليات التي تحتضنها المدينة:
مهرجان فاس للموسيقى الروحية: نغمة السلام من قلب المدينة
يُعد مهرجان فاس للموسيقى الروحية من أبرز الأحداث الثقافية على الصعيدين الوطني والدولي. تأسس هذا المهرجان في تسعينيات القرن الماضي، وهدفه هو تعزيز الحوار بين الثقافات والأديان من خلال لغة الموسيقى.
تُقام العروض في فضاءات روحانية ساحرة مثل باحات المدارس العتيقة وجنان السبيل، حيث تُؤدى مقطوعات صوفية وموسيقية من الهند، تركيا، إيران، إفريقيا، أوروبا، والأندلس، وكلها تلتقي في رسالة واحدة: "السلام والتسامح".
مهرجان فاس للثقافة الصوفية:عرس للروح والعقل
ينقل هذا المهرجان الزوار إلى عالم من الصفاء والتأمل، من خلال جلسات الذكر، الندوات الفكرية، ومعارض الخط والزخرفة. يُبرز الحدث البُعد الصوفي العميق للمدينة، ويحيي تراث أعلام مثل مولاي العربي الدرقاوي والشيخ أحمد التيجاني.
يتفاعل الحضور مع فرق إنشاد صوفي من المغرب ومناطق أخرى، في أجواء يملؤها البخور والأنوار الخافتة، لتصبح التجربة الروحية والفكرية متكاملة.
"فانتازيا فاس": صهيل الاصالة
الفانتازيا أو "التبوريدة" ليست مجرد عرض للخيول، بل هي تجسيد حيّ لفروسية الأجداد وشجاعتهم. تنظم العروض في محيط المدينة أو في ساحات مخصصة خلال المناسبات، حيث تتنافس فرق من الفرسان بلباس تقليدي وزينة الخيول في إطلاق "البارود" بتناغم جماعي مهيب.
هذا الحدث الشعبي يُعتبر أيضًا رمزًا من رموز الانتماء والهُوية المغربية، ويُرافق عادةً بأهازيج شعبية، ورقصات تقليدية، وموائد عامرة بالمأكولات الفاسية.
عروض فروسية تقليدية تمزج بين الشجاعة والتراث.
الطعام الفاسي نكهة خاصة لاتنسى
أطباق مشهورة
الطنجية الفاسية: طبق بطيء الطهي يُعد في قدر تقليدي خاص، يُطهى غالبًا في رماد الأفران العامة، وتُحضّر عادةً من لحم العجل أو الضأن مع الليمون المصير والثوم والبهارات.
البسطيلة: فطيرة شهية تجمع بين الحلو والمالح، محشوة بلحم الحمام أو الدجاج، واللوز، وتُزين بالسكر والقرفة.
الطاجين بالبرقوق: مزيج فريد من اللحم والبرقوق المجفف المطهو مع القرفة والسمسم، يقدم في المناسبات والأعياد.
فاس في الأدب المغربي والرحلات التاريخية
لطالما شكّلت فاس مصدر إلهام للعديد من الأدباء والمؤرخين، سواء المغاربة أو الأجانب. فقد كتب عنها ابن بطوطة وليو الإفريقي، وذكرها مارمول كربخال في وصفه الدقيق لمدن المغرب. كما أبدع فيها شعراء كـأحمد المجاطي وعبد الله كنون في تجسيد روحها بين السطور. إنها ليست فقط حاضرة ثقافية، بل أيضًا ملهمة وجدان الأمة المغربية.
السياحة في فاس: ماذا ترى وماذا تفعل؟
زيارة فاس لا تكتمل دون المرور بهذه المعالم:
- باب بوجلود: البوابة التاريخية الشهيرة.
- مدرسة العطارين: تحفة معمارية مرينية.
- متحف دار البطحاء: حيث يعرض التراث الفاسي بكل تفاصيله.
- مدابغ فاس: حيث تُصبغ الجلود بألوان زاهية، في مشهد ساحر وفريد.
- برج الشمالي: متحف مخصص للأسلحة التقليدية، يضم مجموعات نادرة من السيوف والبنادق والدروع القديمة.
فاس في عيون العالم
لطالما كانت "فاس" محط أنظار المستشرقين والسياح والمؤرخين. يصفها البعض بـ"أثينا المغرب"، وآخرون بـ"المدينة التي لا تنام". إنها مدينة تحترم تاريخها وتعيش حاضرها، وتدعوك لتكون جزءًا من قصتها.
اسئلة شائعة:
ما الفرق بين فاس البالي وفاس الجديد؟
فاس البالي هي المدينة القديمة التاريخية التي تعود للقرن الثامن، وتزخر بالمعالم الدينية والعلمية والأسواق التقليدية، بينما فاس الجديد أنشأها المرينيون كمقر للسلطة وتشمل القصر الملكي وحدائق وجزء من الحي اليهودي.
لماذا تعتبر فاس عاصمة روحية للمغرب؟
لأنها تحتضن أقدم جامعة في العالم، وتاريخًا طويلًا من الفقه والعلم والتصوف، بالإضافة إلى احتضانها لزوايا وأضرحة رموز دينية كمولاي إدريس وسيدي أحمد التيجاني.
ما هي أشهر الصناعات التقليدية في فاس؟
من أبرزها: الزليج الفاسي (البلدي)، النسيج والقفطان الفاسي، الجلد الطبيعي وصناعة البلاغي، بالإضافة إلى النحاسيات والمنتوجات اليدوية الفاخرة.
متى أفضل وقت لزيارة مدينة فاس؟
أفضل وقت هو في الربيع (مارس إلى مايو) أو الخريف (سبتمبر إلى نوفمبر) حيث يكون الجو معتدلًا ومناسبًا لاكتشاف المعالم والاستمتاع بجولات داخل المدينة العتيقة.
خاتمة:
فاس... مدينة لا تنام على ماضيها
عندما تغادر "فاس"، تظل رائحتها في الذاكرة، وصورها في العين، وأصواتها في الأذن. إنها مدينة من زمن آخر، لكنك تعيش فيها الحاضر بكل تفاصيله. فاس ليست وجهة، بل حكاية يجب أن تُروى.